قراءة في المجموعة القصصيّة “سطر روايتي الأخير” للكاتب الليبي: جمعة الفاخري قراءة: منذر فالح الغزالي قراءة في المجموعة القصصيّة “سطر روايتي الأخير” للكاتب الليبي: جمعة الفاخري قراءة: منذر فالح الغزالي -->

قراءة في المجموعة القصصيّة “سطر روايتي الأخير” للكاتب الليبي: جمعة الفاخري قراءة: منذر فالح الغزالي

قراءة في المجموعة القصصيّة “سطر روايتي الأخير” للكاتب الليبي: جمعة الفاخري قراءة: منذر فالح الغزالي - عراق جرافيك

وكالة خبر - أدب -

قراءة في المجموعة القصصيّة “سطر روايتي الأخير” للكاتب الليبي: جمعة الفاخري

قراءة: منذر فالح الغزالي
____________________________________________
لا يصعب على القارئ أن يلاحظ ميل الكاتب جمعة الفاخري إلى الأفكار في مجموعته القصصية الأخيرة. فالفكرة هي عماد نصِّه، كما يبدو ذلك في معظم قصص المجموعة، وفي القصص ذات المضمون السياسي، بشكلٍ أكثر وضوحاً؛ ولا يخفى، أيضاً، اعتماده على الحوار، حتى ليكاد الحوار أن يكون هو الحامل الرئيسي للنص والأفكار معاً.

وأعتقد أن ميل الكاتب إلى تغليب الحوار على السرد، في القصص ذات المضمون السياسي، جاء لتلبية وظيفةٍ فنيّةٍ يبتغيها: فكون الفكرة هي أساس نصّه، فإنّ الكاتب يتوارى بذكاءٍ خلف شخصيات قصصه، ليطلق،على ألسنتها، ما يريد من أفكارٍ، ويعطي، بالتالي، للفكرة تعمياً ومصداقية، فلا تبدو الفكرة خاصة بالكاتب، لا سيما إذا لاحظنا أنّ كثيراً من الأفكار صدرت على لسان أطفالٍ…ومن أكثر (براءةً) من الأطفال؟.

واعتماد النص، عند جمعة الفاخري، على الحوار، يخفّف من مساحة السرد في النص، ويقلّل استراحات الوصف (عدا قصتين أو ثلاث، كان الوصف فيها هو الغالب)، وبالتالي يضيق المكان القصصي. فليس غريباً أن أن نجد المكان عنده غرفة معيشة، أو غرفة نوم، أو مصطبة عند باب دار… لا يكاد يتعدّاه إلا اضطراراً، حين يكون هناك استرجاعاً ما من إحدى الشخصيات، فيتسع حينها المكان، ويتمدّد الزمان، بقدر حاجة الراوي.

يُستثنى من الحديث السابق نص اغتصاب، (النص الثامن في المجموعة)، فهو مبنيٌّ على الوصف بأكمله، مستعيناً بشروط وتقنيات القصة القصيرة جداً، والخاطرة. من الأولى أخذ التكثيف والقفلة المفارقة، ومن الثانية أخذ الوصف، مقسّماً النصَّ إلى نصوصٍ بعنواناتٍ متمايزة؛ لكن مترابطة وذات دلالاتٍ لا تخفى. فالوصف، في هذا النص، هو البطل الحقيقي، وهو محرّك الحدث، الذي يأخذ سيرورته من اختلاف الوصف من مقطعٍ إلى مقطع. ففي حين بدأ الراوي بوصف قريته بالبراءة، بشارعٍ وحيد ضيّق مستقيم، وما يوحيه من حميمية وبساطة واستقامة أهل القرية، انتهى في المقطع الأخير من النص إلى: “شوارع هرمة، تدلق أكداس قادمين جوعى، في جوف قريتنا الصغيرة، تتّسع، تتّسع، فتضيق بها، بنا، بهم، نتحسّسها فلا نلمسها…لم تعد لنا.”. وليخرج النصّ (اغتصاب) مجموعةً من الصورالأدبية الجميلة، تنتقل بنا بمتعةٍ بصريّةٍ يرسمها بالكلمات، ولنكتشف، بعد الانتهاء من نشوة الوصف الجميل، أننا في مكانٍ آخر، غير الذي انطلقنا منه، وأننا في زمانٍ مختلف عن الزمان الذي بدأنا به، وليقدّم لنا، أخيراً، وبالوصف وحده، قصّة مجتمعٍ كاملٍ يتغيّر.

وفي قصته دموع، (القصة الرابعة عشرة) شكّّل الوصف حالةً وجدانيّةً عميقةً وشفّافة. فالصورة، ودقّة متابعة الحركة الجوّانية للعجوز، بطل القصة، هي التي صعدت بالنص إلى فضاءٍ روحي شفّاف، شفافية الحزن والموت؛ لذلك جاء استهلال النص بمسرود…”يا لحياتنا الضائعة، أبوابٌ تصطفق، وأصدقاء يغيبون…!” تكثيفاً للقصّة برمتها…قصتنا جميعاً!

هذا الكشف الداخلي للنفس في لحظات حزنها، وسعادتها وحلمها وتردّدها، نلاحظه بشكلٍ أكثر وضوحاً في قصة الإسكندرية (الخامسة عشرة في المجموعة)، حيث يبرع الكاتب في وصف الصراع النفسي لبطل النص، النادل الشاب في إحدى المقاهي، الذي يجد هاتفاً محمولاً ثميناً، نسيه أحد الزُّبُن على طاولته وغادر. يبدأ الصراع الداخلي بين اغتنام اللقية، وما يرافقه من أحلام يقظةٍ، وبين الإحجام والوازع الخلقي. أجاد الكاتب في وصف باطن البطل بين الإقدام والإحجام. وبرأيي، هذا الصراع يتعدّى حدود نفس هذا الشاب الفقير؛ إنه صراع الإنسان، صراعنا نحن البشر، بين الذرائعية والمثالية. غير أنّ الكاتب لم يشأ أن يتبنى أي انحيازٍ لأحدهما، فجاء حلّ الصراع من الخارج، حين رنّ الهاتف فجأةً….لقد اتصل صاحبه، ليسأل عنه، وليخبر أنه قادمٌ ليأخذه.

أما في قصة (أصفر، أخضر ، بنفسجي – القصة العاشرة في المجموعة) فاهتمام الكاتب باللغة، فاق كلّ نصوص المجموعة حتى كأنّه، في لحظةٍ ما، ينسى أنه يكتب نصّاً قصصيّاً، وتتغلّب روح الشاعرعلى القاصّ، حيث نجد النصّ يحلّق بأجنحة الشعر، ليتحوّل النصَّ إلى أنشودة للحبِّ، جميلةٍ عذبة…للغة ، في هذا النصّ، رقّة خاصة، تليق بعاشقٍ يحتفي بعشقٍ قديم…”تعبرني بعينين سوداوين والهتين، تجتازني بليلتين ساحرتين تبرّأتا من قمريهما الناضجين، فأسكنتاه ركناً وثيراً في طرفين كحيلين… تغمرني في محيطٍ من لهفٍ مصفّى…أتبعهما مبتلّاً بشوقٍ عميم، أتقفّى حبّها بقلبٍ تزغرد فيه أعاصير حنين مهووسة”. 

على هذه الأنسام الرقيقة، تتهادى كلمات النصّ، باستعاراتٍ وتشبيهاتٍ، وكناياتٍ ذات دلالاتٍ عميقة، رغم شفافيتها، مثل….” الشوق الفتّان يلوّن أعماقي بألف ربيع، يرسم لقلبي درباً أخضر، لا شاراتٍ حمراء فيه”…أو مثل: “لماذا عبرت َالشارات الحمراء؟”…فكم من شارةٍ حمراء يضعها المجتمع المثقل بتقاليد لم يعدْ يحتمل عبئها، وفي الوقت نفسه، لم يكلّف نفسه عناء تجاوزها؟!.

وقصّة رسالة ( القصّة الحادية عشرة) هي قصّة الأحلام الناقصة، أو المبتورة، أو المقتولة…الكاتب الذي يفرح بتحقيق حلمه: زيارة باريس، بدعوةٍ لحدثٍ أدبيٍّ كبير، لا يكاد يصحو من فرحته حتى يقرأ خبر موته في بريده الإلكتروني..هو، إذن، موت الحلم؟ أم منعه؟…أم هو الموت المعنويّ للكاتب، حين يفكر بالابتعاد عمّن يكتب لهم في وطنه؟!…النهاية الغرائبيّة تجعل للنصّ تشظّياتٍ عديدة، واتجاهاتٍ، في القراءة متعدّدة. 

هذه التشظّيات تصل في نصّ جمعة الفاخري، أحياناً، إلى ذرىً شاعريّةٍ، تصل حدّ الفلسفة، فنجده يبرع في اقتناص اللحظات الإنسانيّة الهاربة من حياتنا المكرّرة الرتيبة، تلك اللحظات التي لا ننتبه لها، حتى يأتي حدثٌ استثنائي، وربّما عابرٌ، ليذكّرنا بها، ويجعلنا نتلمّس أنفسنا، نتعرّف إلينا، نتأكّد أنّنا ما زلنا نحن، نحسب، في لحظةٍ عابرة، الأشياء التي فاتتنا، تحت ثقل الهموم التي تضغط على كلّ شيءٍ فينا، ثمّ نعود إلى حياتنا اليوميّة ومشاغلنا الصغيرة،التي تستنزف عمرنا. يتبدّى هذا واضحاً في قصّة (رأسٌ وجسدٌ) التي افتتح بها المجموعة…

من حدثٍ بسيطٍ (أخذ صورة عند مصوّرٍ محترف، لجواز السفر) استدعى الكاتب فلسفةً في الحياة، وأسئلةً عابرة؛ لكنّها، في مرورها العابر، عميقةٌ ، في الحياة وفي الإنسان، وهذه العبثيّة التي نراها ونعيشها، أوتُفرَض علينا…”لماذا يتخلّى الإنسان عن بعضه تحت وطأة الظروف القذرة؟…هل خُلِق الإنسان ضعيفاً إلى هذا الحدّ المؤسف!؟”، يتساءل بطل النصّ وراويه، مستخدماً ألفاظاً تتجانس وطبيعة النص…”بصق كلماته…نبحني بسيل شتائم…”، وموظِّفاً السخرية توظيفاً رائعاً، فجاءت كأنها الحكمة….”إنهم يشنقون نصف الريّس، ونصف المواطن…سيموت المواطن، ويبقى الريّس، موهوماً بأنّه حيّ..”، منهياً القصّة نهاية يموت فيها البطل بصورةٍ سرياليّة غريبة، ولكن عميقةٌ بدلالاتها، هذا الموت الذي يؤكّد، بمعناه البعيد، موت المواطن – الوطن…”يُفصل الرأس عن الجسد، يسقط أعلى. أنظر إلى أشياءٍ حميمةٍ تسقط منه إلى أسفل. أتأملّها مختلطةً بالدماء…بعض أناشيدي عن الوطن، كنت ألقّنها للصغار، وصورة أمي…وعطر أثير ظللت أدّخره لعرسٍ قادم…”

يتدرّج النص “رأس وجسد” مبتدئاً بالحدث الاعتيادي اليومي، ليصل إلى نهايةٍ مأساويّة، أرادها الكاتب أن تكون على يد الحاكم بأمره، وبسببه. 

هذا يعيدنا إلى الحديث عن النصوص ذات المضمون السياسي، رغم أننا لا نستطيع أن نفصل السياسي عن الاجتماعي في نصوص المجموعة، غير أنها ذات مضمونٍ سياسيٍّ خالص، بموضوعاتها، وعنواناتها…(صار ابني رئيساً، الثالثة – سطر روايتي الأخير، الخامسة – سأقتلكم، الثانية ).

سأقتلكم هو نصّ، وإن كان يقطر سياسةً، إلا أنه يتعدّى حدود السياسة، ليكون كلمة احتجاجٍ على التاريخ…”سأقتلكم” ، يقول الزعيم في النص.

“لماذا تقتلنا؟”

“لأنّ بلادي لم تدخل حرباً قطُّ…ينبغي أن يكون لنا تاريخ!” 

“هل حقاً أنّ الحروب هي التي تعطي للوطن، أيّ وطن، تاريخاً؟!”

وفي قصته إعدام (القصة الثالثة عشرة) حكاية رجلٍ محكوم بالإعدام، يجادل القاضي الذي حكم عليه، ويطالبه بمبررات الحكم. يتصاعد الحدث، ليصل إلى ذروةٍ تجعلنا ننتظر النهاية بلهفة؛ لكنّ الراوي يخذلنا حين يكشف أنّ ما مرّ كان مجرّد حلمٍ.

هذه النهاية -برأيي- أفقدت النصّ ثقةَ القارئ؛ فالحدث الذي شدّنا طيلة السرد والحوار والجدال، وجعلنا نتعاطف مع البطل الضحيّة، انهار دفعةً واحدةً، حين علمنا أنّ ما كان، مجرّد حلمٍ، أي ليس هناك ضحيّة، ولا حدث…لقد خذلنا الراوي بهذه النهاية.

وفي قصّة صورة الريّس (القصيّة التاسعة)، يستلهم الكاتب ما سجّله مكسيم غوركي في إحدى صوره الأدبية، حين سأل جنكيز خان خادمه كومار: “لو عُرِضْتُ للبيع، بكم تشتريني يا كومار؟…بخمسةٍ وعشرين ديناراً…ولكنّ حزامي وحده يساوي خمسةً وعشرين ديناراً!…أنا دفعتُ ثمن الحزام، أمّا أنت نفسك، لا تساوي درهماً واحداً!!!”. لكنّ السؤال، في نص الفاخري، يأتي على لسان الطفل الذي يسأل أباه:

” لماذا ينشرون صورة الرّيّس في مليون جريدةٍ كلّ صباح؟

ليثبتوا أنّه بمليون وجهٍ.

وما هذه الدراهم العشرة؟ 

إنّها قيمة الجريدة.

جريدةٌ فيها وجه الرّيّس، بعشرة دراهم، فما قيمة الرّيّس إذن؟

ستعرف قيمته بطرح قيمته من ثمن الجريدة…!!”

أمّا النصّ السياسي الأروع، فكان: أنوفٌ (النص السادس). إذ يفتح، في هذا النص، باباً تقيلاً صدئاً، ليدخلنا إلى أحد أسباب صناعة التطرّف والكراهية، وليقولَ: إنّ العداء والكراهية والتطرّف هو نتاج التربية…بين الواقعي والفانتازي يأخذنا الراوي في سيرةٍ مختصرة للرجل الذي أوصاه أبوه، وهو طفلٌ…”حين تكبر أريدك أن تأكل أنوف الرجال…..”. حفظ الطفل الكلمات بحرفيّتها، دون أن يفهم معناها، وتحوّلت الوصيّة إلى هواية كبرت معه، وصارت عادة…ثمّ إدمانٍ لا يستطيع تركه…ثمّ مرضاً يؤرقه حتى مماته، وهو يشتهي أنوف الرجال، ويقضمها، ويلتهمها…هكذا نصنع العنف…انتبهوا لكلّ قولٍ…انتبهوا ماذا تعلّمون أولادكم…لا تحمّلوا أحداً ما لا يستطيع فهمه، فيتحوّل إلى وحشٍٍ يلتهم أنوف الآخرين.

خمسة عشر نصّاً احتوتها مجموعة الكاتب الليبي جمعة الفاخري، في كتابٍ من القطع الصغير، من خمسٍ وتسعين صفحةً، هي المجموعة الخامسة للكاتب، والكتاب العشرون، بإنتاجٍ متنوّع، بين الشعر والقصة القصيرة جداً والخاطرة والنقد، والقصة القصيرة. 

تمتاز قصص المجموعة بتنوّع موضوعاتها، ويمتاز الكاتب بانحيازه إلى الإنسان، في السياسي أو الاجتماعي، تكاد مآلات أبطاله، كلّها، أن تكون مآلات مأساوية خاسرة، كأنّه أرادها مرآةً لصورة الإنسان الخاسر، في مجتمعنا العربي. والسياسة، في المجموعة، هي سبب الشرور، ورأس الشرّ: الزعيم الطاغية.

تمتاز النصوص بلغةٍ نظيفة، راقية، وللحبّ فيها مكانٌ ومكانة، يبدو هذا في رقّة مفرداته، وجمال صوره، حتى أنّ اهتمامه باللغة، في بعض النصوص، كاد أن يفقدها شروط القصّ.

وتمتاز نصوص المجموعة بأنها نصوص “أفكار” . 

اختار الكاتب لمجموعته عنواناً، هو عنوان أحد نصوصه السياسية…للعنوان جاذبيةٌ وإغرءً؛ لكن ليس بالضرورة أنّ النص هو أجمل نصوصها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

تابعنا على جوجل نيوز

هلا ومرحبا بكم : وكالة خبر حمل التطبيق الان