اللغة الشّعريّة في القصّة القصيرة جدّاً    بقلم:  منذر الغزالي اللغة الشّعريّة في القصّة القصيرة جدّاً    بقلم:  منذر الغزالي -->

اللغة الشّعريّة في القصّة القصيرة جدّاً    بقلم:  منذر الغزالي

اللغة الشّعريّة في القصّة القصيرة جدّاً    بقلم:  منذر الغزالي  - عراق جرافيك
وكالة خبر - أدب -

مدخل- مفهوم الشّعريّة في القصّة القصيرة جدّا: 


إذا كانت شعريّة اللّغة إحدى الممكنات الجماليّة في النّصّ السّرديّ (قصّة، رواية)، فإنّها- أي الشّعريّة- هي العنصر المهيمن الذي يحدّد نجاح النّصّ القصصيّ القصير جدّا أو فشله ذلك أنّ من طبيعة القصّة القصيرة جدّا غياب الحوار الطّويل أو الوصف المسهب أو السّرد المطنب، تلك العناصر التي تشكّل جماليّات السّرد في القصّة والرّواية. فاللّغة، في القصّ القصير جداً، مطالبة بأن تكون ذات دلالاتٍ مباشرةٍ محدودةٌ في متن النّصّ تعطي للحكاية وجودها وتطوّرها، وفي الوقت ذاته مطالبةٌ بأن تُشحن بأقصى طاقاتها التّعبيريّة الإيحائيّة، تنزاح، بفعل القراءة، وتحيل النّصّ إلى عوالم ودلالات أبعد من دلالاتها المباشرة التي يبني عليها الكاتب حكايته. 


إذاً، اللّغة في القص القصير جداًّ ذات مستويين،  مستوى حضور، المقصود به الدّلالات المباشرة التي تنبني عليها الحكاية، ومستوى غياب، تحيل إليه تلك الدّلالات بما تملك من أبعاد أوسع من دلالاتها المباشرة، وكلّ ذلك  دون أن يفقد اللّفظ انسجامه وتماسّه بين المعنى المباشر الباني الحكاية، والمعنى الغائب الكنائي، وتصبح القصّة القصيرة جدّا ليست الحكاية التي يقدّمها السّرد بدلالاته المباشرة، بل"النّصّ الموازي" أو النّصوص الموازية التي تبثّها الدّلالات حين تُفرد في ذهن القارئ، وتتحوّل الحكاية المكتوبة إلى حكايات لم يكتبها الكاتب لكنّه، بمهارته وذكائه، استطاع أن  يولّدها أو يستدعيها في خيال القارئ وفكره، وبهذا تفترق القصّة القصيرة جدّا عن القصّة القصيرة والرّواية، وتستحقّ أن تشكّل جنسا أدبيّا خاصّا له مميّزاته ومكوّناته وشروطه، وليست مجرّد اختزال للقصّة القصيرة أو تلخيصا لها. 


ومن هنا كان التّكثيف أحد أهمّ شروط ومكوّنات القصّة القصيرة جدّا، فالتّكثيف، في المعنى الذي أشرنا إليه، ليس مجرّد اقتصاد في عدد المفردات المكوّنة للنّصّ، بل هو تكثيف دلالات تلك المفردات، أي شحن المفردة الواحدة بشحنة دلاليّة عالية التّركيز بحيث يصل الكاتب إلى النّهاية بأسرع ما يمكنه، مع سرد حكايةٍ كاملة، دون أن تفقد الحكاية أثرها لدى المتلقّي بمجرّد الانتهاء من قراءتها، وذلك يتطلّب من الكاتب، أوّلاً: ثقافة ليست بالقليلة تكون عناصرها وموضوعاتها هي المرجعيّة الذّهنيّة للمعنى/المعاني الغائبة في اللغة الإيحائيّة، وثانياً: حساسيّة مرهفة تجاه الأشياء والظّواهر والتّفاصيل اليوميّة يشكّل منها رؤية النّصّ، وثالثاً: حسّا لغويّا يمكّنه من انتقاء الألفاظ المناسبة، ودرايةً عالية بالدّلالات والتّراكيب تمنحه الحرّيّة والحيويّة في انتقاء الرّموز والإشارات والأطياف الحلميّة التي اختزنها فكره وشحْن النّصّ به. 


وقبل ذلك وبعده، موهبةً كتابيّةً تمكّنه من أن يُخرج من كلّ تلك المدخلات حكايةً في نسيج مضموم مكثّف، قوامه ألفاظ معدودة، لكلّ لفظٍ منها وجوهٌ متعدّدة، وجهٌ واحدٌ منها تقوم عليها الحكاية، وتكون حكايةً مكتملة الحضور في الزّمان والمكان والشّخوص والعقدة، وفي الوقت نفسه حاملة للإدهاش، ووجوهٌ أخرى تكون خلف تلك الدّلالات المباشرة يشكّل منها القارئ- كلُّ قارئ- حكايته ورؤيته الخاصّة حسب نظرته وفلسفته في الحياة والطّبيعة والكون. 


التّكثيف، إذن، هو تركيز التّجربة الإنسانيّة -في زاوية منها- بألفاظٍ تحمل رموز تلك التّجربة عبر مسيرة الإنسان الطّويلة، وتصبح لغة النصّ لغةً مخاتلة قلقة متأرجحة بين حكايةٍ مكتوبةٍ في نصٍّ مادّيٍّ منضّد، وبين أبعادٍ استشرافيّة صوفيّة حُلميّة وفلسفيّة تداعب ما غاب في داخلنا، أو تحفّز تلك الإشارات الإنسانيّة الشّموليّة التي اختزنها الإنسان عبر زمن وجوده الممتدّ على وجه الأرض، تلك اللّغة التي أطلق عليها إريك فروم "اللّغة المنسيّة"، ذات الرّموز المشترَكة في لاوعي الإنسان في كلّ زمان ومكان، وعبّر عنها أوضح تعبير في فنونه وطقوسه الدّينيّة وأساطيره، وفي الحلم والمشاعر المشتركة التي انبثقت عن غرائزه الأساسيّة. 


المفردة في القصّة القصيرة جدّا هي عنصر البناء الأساسيّ، ولا يجوز التّفريط بها أو وضعها بالمجّان بلا هدفٍ أو جدوى، وأسلوب كتابة هذه المفردات بانزياحاتها التي تشبه الشّعر وما هي بالشّعر، وتنضيدها على الورق، واستخدام الأدوات الأسلوبيّة أهمّيّة كبرى. 


لغة القصّة القصيرة جدّا هي بالأساس لغةٌ شعريّةٌ مكثَّفة، تنتشر بفعل القراءة إلى تشظّيات مختلفة نورانيّة صوفيّة، أو شعوريّة سكونيّة عميقة، أو انفتاحات فلسفيّة... وأثمن العطور أشدّها تركيزاً، تكفي قطرةٌ منه لتملأ المكان بالعَبق. 


أولاً، شعريّة الانزياح اللّغوي: 


المقصود بالشّعريّة في القصّة القصيرة جدّا ليس الوزن والقافية والموسيقى، فهذه شروطٌ للشّعر تبقى ملكاً له، لكنّ الشّعريّة في القصّة القصيرة جدّا هي تلك الدّلالات الواسعة للكلمات التي تغطّي طيفا من المعاني، وتداعب خيال كلّ قارئٍ بصورةٍ تختلف باختلاف تجربته الذّاتيّة. 


في نصّ بعنوان "قدر" للكاتبة التّونسيّة زهرة خصخوصي نقرأ: 


[ألفتُني ..على مشجب أُعلّقني وأمضي أردّد :"حُمّلتُ وزر الجمال..". 
تتّسع رقعة الحلم . 


أُرجئني كلّ صباح إلى غدٍ قد يأتي. 
ذات مساء عدتُ .. 


ما وجدتُني .. 


ذُعرتُ، بحثتُ عنّي في الزّوايا المنسيّة. 


صحتُ: "أيّ بيدٍ تلقّفتني آن عصف غياب..؟" 


أجبتُني من عَلٍ: "أنت فيّ أنا... ما عدتُ لبوسا للخواء.." 


احتضنتُني… همستُ: "كم كانت قرّا دروبي قبلنا". 


اشتدّت حرارتي… خلعتُني… اصطكّت عظامي صقيعاً، 


عدتُ أرتديني... 


 يؤرجحني العمر بين الزّهر والجمر]. 


هذه اللّغة التي تشبه لغة الصّوفيّين في اندماجهم، ذاتَ وجدٍ، مع المعشوق، واختيارها للمفردة، وانزياحات اللّغة تقديما وتأخيرا، هي التي تعطي لنصّ زهرة خصخوصي شعريّته، ومخاطبتها للآخر: المعشوق، الرّجل أو الإله أو القدر، يفتح آفاق النّصّ انفتاحا شاعريّاً جميلاً في غموضه وغَبَشه اللّذيذ. 


ثانياً، شعريّة الغرائبيّة: 


والشّعريّة أيضا هي ذلك العالم الذي يرسمه الكاتب في نصّه متّكئا على الرّمز أو الصّور السّرياليّة التي تحاكي عالم الأحلام. وما الحلم إلّا رموزٌ وإشاراتٌ كدّستها الخبرة الإنسانيّة يستدعيها اللّاشعور ليبني منها عالماً واسعاً لدى الحالم، ليفتّش، بعد ذلك في وعيه، عن تأويلات تلك الرّموز التي مرّت خطفاً في خياله وتركت أثرها في مشاعره أسئلةً لا تنتهي، حزناً أو فرحاً، قلقًا أو استقراراً. 


في نصّ الكاتبة السّوريّة ريتا الحكيم "يوبيل فضّي" نجد العالم السّريالي حاضراً في حكايتها؛ لكنّه ليس حضوراً مجانيّاً، بل لتترك -السريالية- صداها بأفكار أو مشاعر أو هزّة وجدانيّة.. 


[نهضوا من سباتٍ، يتسلّقون عقارب الزمن. ينضون البياض عن أجسادهم، تصفّق لهم الأشجار وتعزف الأوراق حفيفا راقصاً، يتحلقون حول زوّارهم مهللين، يشربون الأنخاب لا يكتفون بعناقٍ بل يستزيدون. دمعاتٌ ثلاث تطفىء جمر الشوق، يؤوبون عراةً ويسدل العمر أكفانه.]   


فإذا كانت الغرائبية في النص، أن ينهض الأموات لاستقبال زوّارهم والاحتفاء بهم، بينما يكتفي الزوار الأحياء بثلاث دمعاتٍ يذرفونها لإتمام مراسم المناسبة، فإنّ الغرائبية الموازية، والمؤلمة أيضاً، لم يقلها النص مباشرةً، هي أن تصبح مشاعرنا الإنسانية مجرّد مناسبةٍ بمراسم محددةٍ متعارفٌ عليها نقوم بها، لا لإشباع تلك المشاعر، بل لموافقة المواضعات الاجتماعية، وليقول لنا النص، من جهةٍ أخرى، بأنّ الموت الحقيقي يكون حين ينسى الأحياء أمواتهم، عندها فقط، يسدل العمر أكفانه.      


والشّعريّة في القصّة القصيرة جدّا هي ذلك الانفتاح الفلسفيّ الذي يقفل به الكاتب نصّه فيكون بدايًة لأفكارٍ جديدة لا تفارقنا أو ذكرى لحدثٍ ما عشناه أو أحسسنا به; لكنّ غبار الزّمن تراكم فوقه حتّى كدنا ننساه. 


في نصّه "وتد" يأخذنا الكاتب العراقي عبّاس عجاج في نصّ سرياليّ آخر إلى قضيّة فلسفيّة وجوديّة: 


[آثار النّصّل المغروس على رفاتٍ يشبهني، أثبتَ أنّ ثمّة دورةً ألفيّة للحياة. 


مذيعة الأخبار قالت:" من المرتقب ولادة قابيل اللّيلة"] 


ثالثاً، شعريّة الرّمز: 


والشّعريّة أيضا هي تلك الرّموز التي يستدعيها الكاتب من الأسطورة ليبني عليها حكاية تتحوّل في داخل القارئ إلى أسطورةٍ جديدة هي أسطورته، أسطورة الواقع الذي يعيشه دون أن يمتلك الزّمن للتّفكير فيه. 


نقرأ في نصّ "نرسيس" للكاتب الجزائري عدنان لكناوي: 


[يدخل باكياً ويخرج متأنقا، وكلما غاب عنه ظله يهرع ليرسم النقطة. يقف مشدوهاً أمامها. عندما تخبو الشموع.. يصرخ الظل: إنها لوحتي.] 


باستخدام الرمز الأسطوريّ، والتناصّ مع الأسطورة المعروفة، واعتماده تقنيّة الظّلّ أو المرآة يبني الكاتب نصّه، لا ليعيد قصّ الأسطورة، بل ليرسم ذلك التّناقض الذي يعيشه الإنسان بين حقيقته البشريّة وبين ما بقي من جوهر إنسانيّته، في خضمّ صراعه مع ذاته وانسحاق جوهره في سباقٍ محموم في المظاهر والأشكال. أليست هذه صورة من أسطورة الإنسان المعاصر؟ 


رابعاً، شعريّة اللّحظات العابرة: 


والشّعريّة في القصّة القصيرة جدّا أيضا تلك اللحظة الهاربة التي يلتقطها الكاتب من نهر الواقع قبل أن تنزلق عن سطح ذاكرته، فيجمّدها في نصٍّ قصير جدّا يرسم فيه لحظةً عابرة نفرح بها، أو لحظة حزن إنسانيّ لا تتركنا وإن أنهينا قراءة النّصّ. نلاحظ هذه اللّغة الإنسانيّة عند الكاتبة السّوريّة جمانا العامود في نصّها "منفى": 


[كلّما أوقدوا لي شمعة، تناولني الزّمن بصفعة، آخرها كانت الأقوى، حفرت أصابعه الخمسون أعمق تجاعيدي.]        


هذا نصّ رقيق حدثه اعتياديّ؛ لكنّ الكاتبة استطاعت، بتوظيف مجموعةٍ من الأدوات اللّغويّة والأسلوبيّة، أن تجعله نصّا شموليّا عالي القيمة رغم أنّه، من حيث الرّاوي المتكلّم، يبدو نصّا ذاتيّا. فالتّكثيف وسلاسة تتالي الجمل الفعليّة واعتماد الكاتبة على التّشخيص والأنسنة في بناء النّصّ جعل العمر أو الزّمن هو بطل الحكاية، وجعلنا كلّنا شهوداً أو شخوصاً في حكايةٍ لا تنتهي نشعر بها، لكنّنا لسنا قادرين، كلّنا، على الإمساك بومضة الشّعور تلك التي استطاعت الكاتبة أن تمسك بها وتوظّفها في حكاية قصيرة جدا، وتلك القفلة الشّعريّة التي سيرافقنا أثرها طويلاً، ليصبح عمرنا هو منفانا ووجودُنا هو سبب اغترابنا، وليتجاوزَ النصُّ كونه مجرّد حكايةٍ قصيرةٍ جدّا إلى رؤيةٍ فلسفيّةٍ ميتافيزيقيّةٍ للزّمن، ذلك الرّفيق اللّدود الذي مايزال مصدر الأسئلة الوجوديّة الكبرى منذ أن وعى الإنسان وجوده وسط هذا الغموض المطلق الذي يحيط به. 


المتوالية القصصية*:    


هي تجربةٌ في السرد, وجدتها الأنسب لطرح قضية وجوديّة, كقضية الحياة والموت، أو قضيّة وجدانيّة، رأيت أنّ طرحها في سردٍ تقليديّ من مقدّمة وحبكة تتصاعد إلى الذّروة وصولاً إلى الخاتمة, لا تفي بالغرض. والمتوالية القصصية, كأسلوب, هي التجسيد السّردي, في الكتابة, للمتوالية السّيمفونية, في الموسيقا. وهي – كما عملتُ عليها – مجموعة من القصص القصيرة جداً، تتوالى وتتكامل لتعطي المعنى الكامل للحالة أو للفكرة، دون أن يرتبط إحداها بحدثٍ واحد؛ لكن لا بدّ أن ترتبط بالفكرة العامة، أو الغرض الشامل المراد منها. وتتميّز هذه القصص القصيرة جدّا، من جهةٍ، بلغةٍ شعرية بسيطة تكون هي عنصر الإمتاع، ومن جهةٍ ثانية تعتمد الرمز دون إبهام أو غموض. 


قد يرى البعض أنّ المتوالية القصصية هي تسميةٌ أخرى للقصة الشذرية، لكني أرى الأمر غير دقيق، كون المتوالية القصصية، من حيث التسمية، أكثر ملاءمة للمراد، ولاختلاف الصفة الفنية الأساسية وهي: أن القصص القصيرة جداً في المتوالية القصصية ترتبط بالموضوع الواحد ارتباطاً يجعل الابتعاد عن هذا الشرط ابتعاداً عن المتوالية القصصية ذاتها، وكون القصص القصيرة جداً في المتوالية القصصية تنضوي تحت عنوان واحد يشكل عنوان المتوالية من جهة، ومن جهة أخرى يلائم كل قصة في المتوالية، ولو فصلنا إحدى القصيصات وعزلناها عن المتوالية الكاملة ووضعناها تحت عنوان المتوالية، شكلت قصة قصيرة جداً كاملة الشروط والأركان، ولم تتأثر المتوالية بذلك. 


خاتمة: 


أخيراً، فالقصة القصيرة جداً جنس أدبي قائمٌ بذاته، يملك طاقاتٍ واسعةً في التعبير عن التجربة الإنسانية المعاصرة، التي يعدّ انعكاساً لها، دخل الساحة الأدبية العربية، انتشر بسرعة، وله كتابه ومبدعوه، وهو يتطوّر بشكلٍ سريع، ودخل مرحلة التأسيس والتطوير بفضل طائفة من النقاد والكتابات النقدية التأسيسية التي تحاول أن تؤصّله وتضعه في مكانته اللائقة في المشهد الأدبي العربي، قادر أن يحتوي التجربة الروحية والفكرية للكاتب. واللغة الشعريّة فيه هي العنصر الأكثر أهمية، شريطة ألا تتحول هذه اللغة إلى مجرّد ألعاب بلاغية وأسلوبية يعوّض فيها الكاتب نقصه، ويحاول من خلالها أن يبثّ في نصّه الحياة. 
-------------- 
*عرضت موضوع المتوالية القصصية لأول مرة في مجلة العربي. الكويت في العدد 961 يونيو 2016 

منذر الغزالي

إرسال تعليق

أحدث أقدم

تابعنا على جوجل نيوز

هلا ومرحبا بكم : وكالة خبر حمل التطبيق الان